فائض الأموال وقلة المعروض.. زيادة الطلب تعمق جراح أسواق الذهب
لم تفكر رباب محمود، وهي سيدة مصرية في العقد الرابع من العمر، أنَّه قد يأتي يوم تقف فيه وسط طابور طويل يتكون من عشرات المواطنين من أعمار مختلفة، ليس للحصول على الخبز أو سلعة أساسية، بل لشراء سبائك أو جنيهات من الذهب في وقتٍ تعاني بلادها من نقصٍ شديد بالعملة الصعبة أدى لتدهور قيمة الجنيه، واتجاه آلاف المصريين للبحث عن الاستحواذ على كل ما يُمكن أن يحفظ لهم قيمة مدخراتهم.
قفز سعر الذهب عيار 21 قيراطاً، الأكثر شعبية في مصر 58% منذ بداية 2023، وبأكثر من 167% خلال 12 شهراً، ليسجل 2600 جنيه للجرام الواحد (ما يعادل 84 دولاراً أميركياً)، وفقاً لمتعاملين في السوق المحلية، في حين يقترب سعر الجنيه الذهب من 21 ألف جنيه.
رباب، الطبيبة في مستشفى حكومي، ولديها أبناء في مراحل تعليمية مختلفة، فوجئت عندما دخلت مركزاً كبيراً للتسوق بمدينة نصر شرقي القاهرة بطابور مزدحم من الناس أمام إحدى نقاط بيع الذهب، وتقول: "تذكرت محال الحلاقة في يوم العيد، عندما رأيت زحمة من الواقفين بالطابور مع (شنط) محمّلة بالأموال، معظمهم في العقد الخامس والسادس من العمر، وكنت أنا أصغرهم عمراً على ما يبدو. وأمامي أخرج رجل مسن من شنطته 700 ألف جنيه حجز بها سبائك سيستلمها بعد أسبوعين من تاريخ دفع ثمنها، لذا شعرت بالأمان عندما علمت أنَّ شنطتي التي تحوي على 350 ألف جنيه كانت هي الأصغر حجماً بين الحضور".
شهدت أسعار الذهب في مصر ارتفاعات مبالغاً بها خلال الأسابيع القليلة الماضية، مع وصول سعر صرف الدولار في السوق الموازية إلى حوالي 38 جنيهاً، بينما يستقر في السوق الرسمية عند 31 جنيهاً. ومع عدم اقتناع العديد من المواطنين بفائدة شهادات الاستثمار البالغة بحدّها الأقصى 22% بموازاة تفاقم التضخم لأكثر من 32%، تحوّلت الجنيهات والسبائك الذهبية إلى ملجأ لحفظ القيمة.
سعر الفائدة الحقيقي في مصر -أي معدل الفائدة الاسمي مطروحاً منه معدل التضخم- يبلغ سالب 14.45% وفقاً لآخر البيانات، مرتفعاً من 13.65% الشهر الماضي عقب قرار رفع سعر الفائدة الأحدث.
قفز التضخم في مدن مصر إلى 32.7% خلال مارس على أساس سنوي، أما معدل التضخم الأساسي الذي يستثني أسعار السلع الأكثر تقلباً؛ فقد تراجع إلى 39.5% في مارس من 40.3% في فبراير.
تأثير العقود الآجلة للجنيه
لطفي منيب، نائب رئيس الشعبة العامة للذهب والمجوهرات في اتحاد الغرف التجارية، يرى أنَّ استقرار أو تراجع أسعار الذهب في مصر مرهون بعاملين، الأول استقرار الأوضاع العالمية، والثاني توافر النقد الأجنبي في البلاد.
حرّرت مصر سعر عملتها المحلية 3 مرات منذ مارس 2022 حتى يناير الماضي، مما دفع سعر الجنيه المصري للانخفاض مقابل الدولار بنحو 25% خلال الربع الأول من 2023، وبأكثر من 95% منذ مارس من العام الماضي، بداية الأزمة الروسية الأوكرانية.
منيب أشار إلى أنَّ "تهافت المواطنين" على شراء الذهب بأي سعر، أدّى إلى استمرار زيادة أسعار المعدن الأصفر. منوّهاً بأنَّه لو تمّ تسعير الذهب وفق سعر سوق الصرف الرسمية؛ "لتراجع بنحو 30% عن الأسعار المتداولة حالياً". لكنَّه يَعتبر أنَّ تقييم بيوت الخبرة العالمية المنخفض للعقود الآجلة للجنيه المصري مقابل الدولار؛ "دفع العديد من التجار إلى التسعير وفق تلك التوقُّعات، وهو ما شهدناه بشكلٍ واضح في السوق بالآونة الأخيرة".
تفاعل الحكومة
في أول ردّ فعل رسمي على فورة أسعار الذهب في البلاد، أعلن وزير التموين علي مصيلحي، البارحة السبت، أنَّ وزارته تسعى لتقديم اقتراح للحكومة يتيح للمصريين العاملين في الخارج استيراد الذهب دون جمارك، خاصة السبائك والجنيهات الذهبية، كأحد الحلول لكبح جماح تضخم أسعار الذهب في السوق المحلية.
لكنَّه أكّد، في المقابل، أنَّ التدخل "بالقوة" من جانب الدولة في سوق الذهب لن يكون مفيداً؛ "لكن يمكننا اللجوء لآليات السوق وزيادة المعروض"، في إشارة إلى فتح المجال لاستيراد الذهب من قِبل المغتربين المصريين في الخارج.
نادي نجيب، السكرتير السابق لشعبة المشغولات الذهبية في غرفة القاهرة التجارية، وأحد أصحاب محال الصاغة، يوضح أنَّ الارتفاعات الكبيرة التي حدثت مؤخراً بسوق الذهب في مصر؛ "ليس لها علاقة بالسوق العالمية"، إذ إنَّ سعر الأوقية عالمياً لم يرتفع بنفس المستويات.
وأضاف أنَّ "التجار يسعرون الذهب طبقاً لسعر صرف الدولار في السوق الموازية البالغ نحو 38 إلى 40 جنيهاً. هناك تهافت من المواطنين على الشراء بسبب مخاوفهم من حدوث تعويم جديد للجنيه وانخفاض قيمته الشرائية، ما يدفعهم إلى التوجه لشراء الذهب كملاذ آمن وأداة تحوُّط".
أداة استثمار وادخار
داخل ممر صغير بحي الحسين الشعبي في العاصمة القاهرة، المزدحم بالناس كما بالمعالم الأثرية الإسلامية وبمحال الصاغة، حصل أحمد سيد، الموظف بإحدى الشركات الخاصة، على ورقة تحمل الرقم "74" الذي يشير إلى دوره في الطابور الممتد لشراء سبيكة ذهب "بتحويشة" السنوات الأخيرة، فقرر التجول بعض الوقت حتى يحين دوره؛ "وطوال فترة سيري، كان مشهد الطوابير مماثلاً أمام المحال المتخصصة ببيع السبائك والجنيهات الذهبية".
ويتابع سيد: "تأخرت كثيراً في خطوة الاستثمار بالذهب على أمل انخفاض سعره، وهو ما لم يحدث، لذا قررت في النهاية الشراء مهما كان السعر لأنَّني تيقّنت أنَّ السعر يزيد فحسب؛ ولن ينخفض مجدداً، ونجحت في الشراء خلال فبراير الماضي بسعر 1800 جنيه للغرام، و(شوف اليوم بلغ كام.. 2800 جنيه)، أي ربحت 1000 جنيه بالغرام خلال شهرين فقط.. هذا هو أفضل استثمار، فأنا لا أحبذ البنوك والفائدة.. وبالطبع لن أبيع الذهب الذي اشتريته قريباً، فأنا اعتبره ادخاراً للزمن من أجل أولادي".