عمرو عامر يكتب..التعويم.. خير لابد منه
لم يلاحظ أصحاب المحال والقاطنين بمحيط البنك المركزي المصري، حركة النشاط التي دبت ليلا في غرف البنك التي لاتنام، لكن المشهد كان ينبىء عن قرارات مصيرية وحاسمة ستخرج من غرفة السياسات النقدية في الساعات الأولى من صباح الخميس.. وقد كان وأصدر المركزي قراراه المؤجل طويلا بتحرير سعر صرف الجنيه ورفع يد الحماية عنه التي عصمته من الصدمات أمام العملات الرئيسية، مصحوبا بقرار رفع سعر الفائدة على سعر الصرف بنسبة 2%.
وقد يبدوا للمواطن العادي أن القرار اتخذ فجأة ومن أجل صرف قرض صندوق النقد الدولي ورضوخا للشروط، وقلة حيلة الجنيه، بينما الحقيقة أنه في قواعد ولغة الاقتصاد لايوجد قرار مفاجيء أو تحرك سريع دون دراسة فكل القرارات تخضع لمقايس عشرات من التقارير والبيانات والتحليلات المرتبطة بالاقتصاد المحلي ونقاط تماسه مع الاقتصاد العالمي، وهي علاقة متداخلة بشكل كبير تحدد أحيانا مسار اقتصادات دول وتعدل اتجاهات المؤشرات، فلا أحد يعيش وحده وفي دنيا المال والبنوك والتجارة كل شيء مرتبط كشبكة عنكبوت.
ولنفهم القرار المعقد علينا أن نرده إلى أصله لاستيعاب الأسباب وفهم النتائج، إذ تقول القاعدة أن عملة أي دولة مثلها كمثل أي سلعة تخضع لقانون أزلي وهو العرض والطلب، والتناسب بينهما عكسيا تماما، بمعني إذا زاد الطلب على العملة ارتفع سعر صرفها والعكس صحيح تماما، لكن ماحدث أن الدولة ممثلة في القائمين على منظومة السياسات المالية في الماضي وقعت في خطأ تاريخي وأدارت ظهرها للقاعدة الذهبية و«دللت» الجنيه بطريقة أفسدته وأضعفت قيمته ونفخت فيه دون داع.
قرارات حماية الجنيه وضعته في حالة عداء مع العملات الأخرى في العالم، التي ارتأت أنه مدعوم في مواجهة غير عادلة، وتسببت سياسة الحماية الخاطئة في هروب الاستثمارات الأجنبية إلا من رحم ربي، نتيجة عدم توافر مبدأ الشفافية في التعامل مع العملة المحلية، وهو المبدأ الذي يحكم كل اقتصاديات العالم.
في السابقين لم يكن أحد يجرأ على التعامل مع الخلل القائم ورفع الحماية المزيفة على الجنيه، مازاد من الأزمات وراكم التبعات، حتى أطلت أزمة كورونا والصراع في الحديقة الخلفية لروسيا وانفجرت قنبلة التضخم بشكل غير مسبوق مهددة بالركود العظيم واضطرار البنوك المركزية لرفع أسعار الفائدة، في محاولات يائسة للسيطرة على غول الأسعار في السلع والخدمات.
مع اشتعال الأزمة لم يكن هناك بد أن يتصدى رجال شجعان للقرار ويعيدوا تصحيح المسار وإعادة الجنيه لطريقه الطبيعي وسعره العادل، فلم يعد ممكنا استمرار دفع الفاتورة في خدمة مزيفة.
أيا كان توقيت القرار فإنه يحسب لحسن عبد الله محافظ البنك المركزي أنه لم يتختبيء خلف جدار السياسات الخاطئة التي بناه من سبقوه واتخذ قرار التعويم ورفع الفائدة، لأنه في عرف الاقتصاد تخفيض قيمة الجنيه يساعد في إصلاح الخلل النقدي في مصر.
كثيرون حذروا من المبالغة الكبيرة في قيمة الجنيه المصري منذ أوائل عام 2021 ، وأن تركه يطفوا ويعوم هو بداية طريق الإصلاح والتأهيل، وأن إعادة تقويم العملة خير من دعمها في الخطأ.. كلنا ثقة أن قرارات المركزي اليوم هي قرارات صائبة تماما وتأخرت كثير لعلاج التشوه في سعر الصرف وإنت كانت مؤلمة لكن في الألم أحيانا الشفاء التام.