الخزانة خاوية والفدرالي يعاني تخمة في السيولة.. أزمة سداد الديون الأمريكية تقترب من مرحلة الخطر
لا يوجد وقت مناسب إطلاقا لوصول حكومة الولايات المتحدة إلى سقف إصدار الديون، وإثارة تكهنات بأن تخلفا محتملا عن السداد يلوح في الأفق، إذا رفض الكونجرس رفع السقف.
بيد أن الوقت الراهن يعد غير مناسب تحديدا لخوض هذه المعركة، يرجع ذلك جزئيا إلى تخفيض كبار المشترين الأجانب بهدوء مشترياتهم من سندات الخزانة العام الماضي، وقد تتسارع وتيرة التخفيض إذا تعالت الأحاديث عن احتمال حدوث تخلف عن السداد.
ويرجع ذلك أيضا إلى نفاد السيولة مرارا وتكرارا من قطاع سندات الخزانة في فترات الضغط في الأعوام الأخيرة، بسبب مواطن الضعف الكامنة في هيكل السوق، وقد يتكرر هذا بسهولة في حال حدوث صدمة في سقف الدين، لأن هذه المشكلات الهيكلية "مع الأسف" لم تعالج حتى الآن.
لكن السبب الأكبر للقلق حيال التوقيت هو أن النظام المالي يمر بمرحلة حاسمة في الدورة النقدية، بعد 15 عاما من السياسة النقدية الميسرة، التي وسع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بها ميزانيته العمومية من تريليون دولار إلى تسعة تريليونات دولار، يحاول البنك المركزي الآن تقليص السيولة في النظام نحو تريليون دولار سنويا.
هذه العملية ضرورية، وقد طال انتظارها. لكنها لطالما كانت خطوة صعبة وخطيرة، وإذا أمضى الكونجرس الأشهر المقبلة متخبطا جراء تهديدات التخلف عن السداد -لأن قدرة وزارة الخزانة على تمويل نفسها ستنفد في (يونيو) على ما يبدو- فسيرتفع احتمال وقوع صدمة في السوق.
تقرير حديث صادر عن مجموعة الضغط الأمريكية، بيتر ماركتس، يستعرض بوضوح الخلفية الأشمل للوضع، اشتهرت المجموعة لأول مرة خلال الأزمة المالية العالمية في 2008 عندما أصبحت شوكة في حلق الهيئات المنظمة في وول ستريت وواشنطن، لأنها اشتكت بصوت عال -عن حق- من حماقات الإفراط في رفع القيود المالية. منذ ذلك الحين، استمرت في التدقيق في التفاصيل الأكثر إبهاما في اللوائح التنظيمية الأمريكية واشتكت -مرة أخرى عن حق- من أن القواعد قد تم تخفيفها أخيرا.
لكن في علامة صارخة لهذا العصر، أصبحت تسعى الآن إلى هدف آخر في مرمى نظرها: الاحتياطي الفيدرالي. ولا سيما أنها ترى أن الخطر الأكبر على الاستقرار المالي لا يكمن في التفاصيل الدقيقة للوائح التنظيمية فحسب، بل في السياسة النقدية المتساهلة بعد الأزمة. هذا ترك المستثمرين "متحمسين بقوة، إن لم يكونوا مجبرين، على شراء أصول أكثر خطورة"، وأدى -كما يزعم تقرير بيتر ماركتس- إلى "فصل أسعار الأصول عن المخاطر وهيج معدلات اقتراض وديون تاريخية". وهكذا، بين 2008 و2019، ارتفع حجم سندات الديون الأمريكية التي يحملها الناس عامة 500 في المائة، وزادت ديون الشركات غير المالية 90 في المائة، وقفز الائتمان الاستهلاكي، باستثناء الرهون العقارية، 30 في المائة.
لاحقا، عندما ضاعف "الفيدرالي" ميزانيته العمومية في 2020 ـوسط الجائحةـ ارتفعت هذه الفئات من الديون مرة أخرى 30 و15 و10 في المائة، على التوالي. وتتمثل عواقب هذا الرفع المالي الهائل في أن النظام معرض بشدة اليوم للصدمات مع ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض السيولة، حتى قبل أن تضع في حسبانك الخلاف حول سقف الدين.
ويطلق التقرير زلزالا بقوله، "إن الفيدرالي يكافح من نواح عديدة مشكلات من صنيعه". وبالنظر إلى حجم المشكلات، من الصعب جدا حلها مع تفادي الضرر. على الرغم من أن "الفيدرالي" يراقب المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي والنظام المصرفي ويسعى إلى معالجتها، إلا أنه فشل ببساطة في أن يرى -أو لم ينظر أو يعد- نفسه مصدرا محتملا لتلك المخاطر".
سيعارض مسؤولو "الفيدرالي" هذه الحقيقة، لأنهم يعتقدون أن سياساتهم النقدية المتساهلة حالت دون حدوث الكساد الاقتصادي. ربما سيشيرون أيضا إلى أن ارتفاع الديون ليس مشكلة أمريكية فقط. إحدى أكثر العلامات المذهلة التي غالبا ما يتم تجاهلها في عالم ما بعد الأزمة، هي أن الدين العالمي نسبة من الناتج المحلي الإجمالي قفز من 195 إلى 257 في المائة بين عامي 2007 و2020 "ومن نحو 170 في المائة في 2000".
علاوة على ذلك، سيشير مسؤولو "الفيدرالي" أيضا، -وهم محقون في ذلك- إلى أن البنك المركزي ليس سببا مباشرا للخلاف حول سقف الدين. يقع اللوم هنا على عاتق الخلل السياسي في الكونجرس ومجموعة مجنونة من قواعد اقتراض الخزانة.
لكن حتى مع تلك التحذيرات، فإنني أتفق مع الرسالة الأساسية من "بيتر ماركتس"، ومفادها أن البنك المركزي كان بوسعه، بل وكان ينبغي له، أن يكون أكثر استباقية في الاعتراف "ومعالجة" المخاطر المترتبة على سياساته في مرحلة ما بعد الأزمة، لأسباب ليس أقلها أن هذا أوقع الاحتياطي الفيدرالي والمستثمرين الآن في مأزق.
في عالم مثالي، الخروج الأقل وطأة من الكارثة يتلخص في إلغاء الكونجرس قواعد سقف الدين ووضع خطة مشتركة بين الحزبين للسيطرة على الاقتراض، وأن يعترف "الاحتياطي الفيدرالي" علنا بأن إبقاء معدلات فائدة القروض منخفضة فترة طويلة كان خطأ، ومن ثم تطبيع مستويات الرافعة المالية المتزايدة باستمرار.
ربما سيحدث ذلك. في الأسبوع الماضي طرح جو مانشين عضو مجلس الشيوخ، بعض الأفكار لإصلاح الضمان الاجتماعي، ما يشير إلى أنه قد يوجد طريق ما للتوصل إلى اتفاق بين الحزبين لتجنب التخلف عن السداد. لكن إذا لم يحدث ذلك، فإن الأشهر المقبلة ستولد ضغوطا متزايدة في السوق، وسيحدث سيناريو يضطر فيه الاحتياطي الفيدرالي إلى التدخل وشراء سندات الخزانة بنفسه، مرة أخرى.
سيفضل المستثمرون والساسة الخيار الأخير بلا شك، في الواقع، يفترض كثيرون أنه سيحدث، لكن هذا من شأنه أن يزيد مرة أخرى من المخاطر الأخلاقية ويوجد مزيدا من المتاعب على المدى الطويل، في كلتا الحالتين، لا توجد حلول سهلة. ستدفع السطات المالية الأمريكية ثمن أفعالها.