صندوق النقد: ينبغي للسياسة النقدية أن تظل تيسيرية واعتماد منهج استباقي في معالجة المخاطر
تشير تقديرات خبراء صندوق النقد الدولي، بعد مرور عام على تفشي جائحة كورونا، إلى أن الانكماش كان يمكن أن يكون أكبر بثلاث مرات لولا الدعم الاستثنائي للسياسات. فقد ساعد التباعد الاجتماعي والتطعيم في إنقاذ الأرواح. وعلى الرغم من اختلاف النتائج عبر البلدان، تظل أهداف العبور من الأزمة موحدة لها.
ويأتي في مقدمة ذلك الخروج من الأزمة الصحية بشكل سريع، عودة العمالة إلى المستويات الطبيعية، والحد من عدم المساواة وبالإضافة إلى ذلك، فإن البلدان تحتاج إلى الحد من التأثير السلبي طويل الأجل للأزمة ويعد التعاون الدولي القوي أمر مهم لتحقيق تلك الأهداف، فعلى صعيد الرعاية الصحية، لابد من ضمان إنتاج لقاحات كافية في جميع أنحاء العالم وتوزيعها بأسعار معقولة لتستطيع جميع البلدان التغلب على الأزمة بسرعة وبشكل حاسم وذلك من خلال إزالة قيود التصدير على اللقاحات والسلع الطبية. كما يحتاج المجتمع الدولي إلى التأكد من أن الاقتصادات المقيدة مالياً لديها القدرة على الوصول إلى السيولة الدولية لتتمكن من مواصلة تحسن الرعاية الصحية والاجتماعية والبنية التحتية، ومعالجة القضايا الناشئة مباشرة من الوباء.
وعلى الرغم من أن تعافي الناتج المحلي الإجمالي جاء أقوى مما كان متوقعًا (كان الانكماش لعام 2020 أقل بمقدار 1.1 نقطة مئوية مما كان متوقعًا في عدد أكتوبر 2020 من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، مما يعكس نموًا أعلى من المتوقع في النصف الثاني من عام 2020)، إلا أنه لا يزال أقل من اتجاهات ما قبل الجائحة. وشهدت البلدان التي تعتمد بشكل كبير على السياحة والصادرات المزيد من الخسائر في الإنتاج. كما لعبت عوامل أخرى دورًا في استجابة البلدان للوباء، مثل حجم القطاع غير الرسمي، والبنية التحتية الرقمية، ونسبة الوظائف القابلة للعمل عن بُعد، وما إلى ذلك. أما بالنسبة للقطاعات، فقد تضررت بشدة قطاعات السفر، الفنون، الترفيه والضيافة.
ومن ناحية أخرى، عاد الإنتاج الصناعي وتجارة البضائع إلى مستويات ما قبل الوباء بعد الانهيار. في حين أن انتعاش سوق العمل لا يزال غير مكتمل. فقد ارتفعت معدلات البطالة بنحو 1.5 نقطة مئوية فوق متوسطاتها السابقة للوباء في جميع أنحاء العالم. نظرًا للطبيعة غير المتكافئة لصدمة كوفيد 19، وكان تأثير الوباء على التوظيف والأرباح غير متكافئ إلى حد كبير بين مجموعات العمال. وكان الشباب والنساء وذوي المهارات المتدنية نسبياً هم الأكثر تضرراً.
• إجراءات سياسة غير مسبوقة منعت حدوث نتائج أسوأ
وفرت البنوك المركزية السيولة بشكل سريع، ودعمت توسيع نطاق الائتمان لمجموعة واسعة من المقترضين. وقامت السلطات المالية بتوجيه الإغاثة إلى الأسر والشركات من خلال التحويلات، دعم الأجور، ودعم السيولة. ويقدر خبراء صندوق النقد الدولي أن جميع الإجراءات السياسية المتخذة قد ساهمت بنحو 6 نقاط مئوية في النمو العالمي في عام 2020. ولا يزال هناك الكثير من العمل لتحقيق التعافي الكامل، لاسيما في ظروف العمل.
• النظرة المستقبلية، الاختلافات الناشئة وتحديات السياسة
ويحيط عدم اليقين بدرجة عالية بالتوقعات العالمية، حيث ستعتمد التطورات المستقبلية على كل من: مسار الوباء، إجراءات السياسات، تطور الظروف المالية وأسعار السلع، وقدرة الاقتصاد على التكيف مع العوائق المتعلقة بالصحة أمام النشاط الاقتصادي. في حين ستحدد وتيرة التعافي ببعض العوامل الأخرى، مثل:
- الحصول على اللقاحات، والتي تختلف بشكل كبير من دولة إلى أخرى.
- الدعم المالي، ففي البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي، تم الإعلان عن دعم مالي كبير استجابة للوباء. بينما كان الدعم محدودًا في البلدان النامية ويرجع ذلك أساسًا إلى ارتفاع تكلفة خدمة ديونها.
- مع مراعاة الظروف المالية، من المتوقع أن تظل السياسة النقدية توسعية في كل من البلدان المتقدمة والنامية.
- ارتفاع أسعار بعض السلع، فمن المتوقع أن تنمو أسعار النفط بنسبة 30 في المائة في عام 2021 من قاعدتها المنخفضة في عام 2020، ومن المتوقع أيضًا أن ترتفع أسعار المواد الغذائية هذا العام.
• توقعات الناتج المحلي الإجمالي
أصبحت توقعات نمو الناتج الإجمالي لعامي 2021 و2022 أعلى بمقدار 0.8 و0.2 نقطة مئوية على التوالي من التوقعات السابقة، لكن قوة الانتعاش تختلف من دولة لأخرى.
وفي البلدان المتقدمة، من المتوقع حدوث انتعاش مع النمو في الطلب نتيجة لزيادة المدخرات في عام 2020. وفيما يتعلق بعدد أكتوبر 2020 من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، فقد تم تعديل توقعات عام 2021 لتصبح منخفضة في أوروبا ومرتفعة في اليابان والولايات المتحدة. ومن المتوقع أن تؤدي حزمة الإنقاذ التي قدمتها إدارة بايدن البالغة 1.9 تريليون دولار إلى زيادة تعزيز الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 2021-2022، مع تداعيات كبيرة على الشركاء التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة.
في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، ستظل الحماية الفعالة غير متاحة لمعظم السكان في عام 2021. وقد تكون هناك حاجة إلى إجراءات الإغلاق والاحتواء بشكل متكرر في عامي 2021 و2022 مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، مما يزيد من احتمالية حدوث آثار أضرار مستمرة على المدى المتوسط على الناتج المحتمل لهذه البلدان. وتواجه الاقتصادات القائمة على السياحة آفاقًا صعبة بشكل خاص.
• بالنسبة للمجموعة الإقليمية لآسيا الناشئة والنامية، تم تعديل توقعات عام 2021 بالزيادة بمقدار 0.6 نقطة مئوية.
• بالنسبة للشرق الأوسط وآسيا الوسطى، في المتوسط، تواجه البلدان التي بدأت التلقيح مبكرًا (على سبيل المثال، دول مجلس التعاون الخليجي) آفاقًا أفضل نسبياً، بينما الدول الهشة والمتأثرة بالصراعات، والتي قد تضطر إلى الاعتماد على الإمداد المحدود المقدمة من COVAX، فقد شهدت توقعاتهم أكثر سوءاً منذ تقرير آفــــــاق الاقتصـــــاد العــالمي الخــاص بأكتـوبر 2020.
• في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي بعد الانخفاض الحاد في عام 2020، من المتوقع حدوث انتعاش معتدل ومتعدد السرعات في عام 2021.
• في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خاصة فى غانا وكينيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا، يستمر الوباء في إحداث خسائر كبيرة.
- احتواء ضغوط التضخم فى أغلب الدول
ومن المتوقع أن ترتفع أسعار السلع (خاصة النفط) بشكل أكبر في الأشهر المقبلة. وتشير توقعات السيناريو الأساسي عودة التضخم إلى متوسطه طويل الأجل حيث أن الركود المتبقي ينحسر تدريجيًا فقط وتتلاشى التأثيرات الأساسية المدفوعة بالسلع. وتشير معدلات التضخم المتوسطة المقطوعة Trimmed Mean Inflation (التي تقضي على التغيرات الشديدة في الأسعار من توزيع الأسعار كل شهر لتصفية التضخم الأساسي وتقديم تقديرات بطيئة الحركة وغير منحازة لضغط الأسعار) إلى أن ضغوط التضخم نزولى وليس تصاعدى. بالإضافة إلى ذلك، يتعرض العالم حاليًا لفجوات إنتاجية سلبية، ومن غير المرجح أن يزداد التضخم كثيرًا ما لم تصبح فجوات الإنتاج إيجابية وكبيرة جدًا لفترة طويلة من الزمن، ولا تستجيب السياسة النقدية لتوقعات التضخم المتزايدة.
من المتوقع أن تظل تجارة الخدمات عبر الحدود ضعيفة
مع تعزيز التعافي في عام 2021، من المتوقع أن تتسارع التجارة العالمية إلى 8.4 في المائة، ويرجع ذلك أساسًا إلى انتعاش حجم البضائع. من المتوقع أن تظل تجارة الخدمات عبر الحدود (السياحة، النقل) ضعيفة حتى تتم السيطرة على الوباء في كل مكان. وعلى المستوى العالمي، تقلص العجز والفوائض في الحساب الجاري في وقت مبكر من الأزمة ولكنه سيتسع لاحقاً مع ارتفاع أسعار التجارة والسلع.
عدم اليقين والمخاطر المحتملة وفرص الصعود
الجانب السلبي
• تعد السلالات المستجدة للفيروس عوامل مقاومة للقاح. وإذا تجاوزت طفرات الفيروس انتشار اللقاحات، يمكن أن يصبح كوفيد 19 مرضًا متوطنًا مجهول الخطورة.
• تشديد الأوضاع المالية من شأنه أن يعيق آفاق النمو.
• يمكن أن تؤدي أزمة كوفيد 19 إلى ضرر كبير ومستمر لقوى العرض. وقد ينشأ هذا على سبيل المثال، من تقلص معدلات المشاركة للقوى العاملة وحالات الإفلاس.
• إذا طال أجل الأزمة يمكن أن يؤدي ذلك إلى تفاقم الاضطرابات الاجتماعية، مما قد يضر بالمشاعر ويبطئ النشاط بشكل أكبر.
• لا يزال هناك العديد من المخاطر قبل كوفيد 19، ولا يزال التوتر بين الولايات المتحدة والصين كبير على جبهات عديدة، ومنها التجارة الدولية والملكية الفكرية والأمن السيبراني.
الجانب الإيجابى
• تتم الموافقة على لقاحات جديدة على أساس مستمر، ومع تلقيح السكان المعرضين للخطر، فإن الخوف من الإصابة بالعدوى سيختفي مما يؤدي إلى تحسن معنويات المستهلك.
• على الرغم من أن الدعم المالي استجابة لكوفيد 19 كان قوياً بشكل ملحوظ إلا أنه سيكون له تأثير أكبر مما هو متوقع حالياً.
• جاء تخفيف السياسة النقدية والمالية بطريقة قوية ومتزامنة خلال المرحلة المبكرة من الوباء. يمكن أن يحدث انتعاش أفضل من المتوقع إذا استمر التنسيق الدولي بشأن سياسات الخروج والتطعيم في المرحلة اللاحقة من التعافى.
أولويات السياسة العامة
مع حالات التعافي التي تتقدم بسرعات متزايدة، يصبح من الضروري اتباع منهج يتلاءم مع كل حالة على حدة، حيث يتم ضبط السياسات حسب مرحلة الجائحة وقوة التعافي الاقتصادي والخصائص الهيكلية لكل بلد.
المرحلة الأولى: تخطى الأزمة
• يجب أن تظل الأولوية للإنفاق على الرعاية الصحية، حتى يتحسن الأداء الاقتصادي. نتيجة لذلك، يجب على الحكومات ألا تسعى لتقييد التداول الدولي للقاحات. فلابد من اتباع بعض السياسات مثل رفع القيود على صادرات اللقاحات والأدوية الأخرى.
• الاعتماد على دعم السياسة المالية، ففي بعض البلدان ذات الحيز المالي المحدود سوف تحتاج إلى موازنة الإنفاق الاستثنائي مع القدرة على تحمل الديون ضمن أطر موثوقة. ولكن في البلدان التي لديها حيز مالى كبير، فيجب أن تستمر السياسة المالية في توفير تحويلات مستهدفة للأسر المتضررة والأعمال التجارية من خلال توفير القروض للشركات، والمدفوعات المباشرة للأسر.
• الاستعانة بالسياسات النقدية حيثما أمكن، فمن خلال النظر إلى العرض والطلب السلبيين المتزامنين للصدمة، فإن التأثير الكلي على فجوات الإنتاج يصبح إلى حد ما صعب التحديد. ومع ذلك، لا يزال التضخم على المسار الصحيح في العديد من البلدان، مما يشير إلى أن السياسة النقدية يمكن أن تظل تيسيريه في تلك الاقتصادات ذات أسعار فائدة بحد أدني فعال. وقد تحتاج بعض البلدان إلى النظر في بعض السياسات الأخرى لضمان الاستقرار بما في ذلك سياسات أسعار الصرف وإدارة تدفق رؤوس الأموال. وتعتبر سياسة مرونة أسعار الصرف هي الأفضل لاستيعاب الصدمات الدولية والحد من سوء تخصيص الموارد في بعض البلدان.
المرحلة الثانية: حماية التعافي
• أدت إجراءات السياسة العامة إلى الحد من فشل الشركات أثناء الوباء، ولكن مع تقدم الانتعاش يجب على الحكومات التحول من دعم واسع النطاق للشركات إلى سياسات أكثر استهدافاً للقطاعات المتضررة بشدة، مثل تجارة التجزئة، والثقافة والفنون والخدمات الأخرى كثيفة المخالطة.
• توجيه سياسات سوق العمل نحو منع العمال من الوقوع في البطالة لمدى طويل، ولابد من أن تستمر برامج التدريب وصقل المهارات للعامل.
• انقطاع الدراسة أثناء الوباء، أدى إلى خسائر في رأس المال البشري الضروري للنمو المستدام. لذلك يجب إجراء بعض المحاولات لتحسين الخدمات التعليمية، وتقديم سبل الدعم للتعلم عن بعد في البلدان ذات الدخل المنخفض.
• تجنب التضحية بالكفاءة، حيث أن السياسات التي تدعم الشركات الفاشلة تقلل من فرص دعم المشاريع الجديدة الناجحة وتعيق إعادة التخصيص الكلي لرأس المال والعمل. بالإضافة إلى أن التأمين المفرط ضد البطالة قد يقلل من التشجيع على العمل. ولمنع مثل هذه الشركات غير الفعالة من الاستمرار في استقطاب الموارد، يتعين على الجهات الحكومية الاعتماد على إعادة تنظيم الشركات الصغيرة، وآليات إعادة الهيكلة، وإعادة هيكلة القروض، وتنظيم شروط إشهار الإفلاس.
• إعادة التخصيص القطاعي من خلال تدفق الموارد للقطاعات الأكثر تضرراً مثل القطاعات الخدمية والسياحة، وذلك للحد من انتقال الأزمة إلى القطاعات الأخرى.
• تعزيز سياسات تشجيع المنافسة والحد من تركيز السوق للحماية من الممارسات الشاذة مثل الاحتكار أثناء مرحلة التعافي.
المرحلة الثالثة: الاستثمار في المستقبل
• يظل التعاون الدولي ضرورياً لضمان تغطية اللقاحات للجميع مع استمرار سهولة الوصول إلى السيولة الدولية لمنع ضغوط التمويل الخارجية من الامتداد عبر البلدان. وتقليل احتمالية احتياج ميزان المدفوعات للحد من الإنفاق الأساسي على الرعاية الصحية والدعم الاجتماعي. وقد قام صندوق النقد الدولي بتوسيع مجموعة أدوات الإقراض الخاصة به مثل:
• توفير تسهيلات تمويل جديدة، توسيع حدود الوصول إلى تمويل الطوارئ، وزيادة الوصول إلى منح تخفيف خدمة الديون.
• تعزيز الإنتاجية والنمو تتطلب سياسات تصحيحية، مثل الاستثمار في التعليم والبحث والبنية التحتية، بالإضافة إلى الابتكارات في الذكاء الاصطناعي وتطوير البنية التحتية الرقمية مما يؤدي إلى تطورات سريعة في الإنتاجية.
تحسين هيكل السياسات المتبعة من خلال النقاط التالية:
• قد تحتاج البلدان التي تواجه ضائقة مالية إلى النظر في إعادة هيكلة الديون.
• يمكن تحسين السياسات المالية من خلال الإجراءات التي لا تُساعد فقط فى زيادة الإيرادات بل تساعد أيضا على الانتعاش مثل زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات ذات الأرباح المرتفعة والفئات الأقل تأثرا بالجائحة، وسد الثغرات الضريبية للشركات، وإلغاء النفقات المهدرة للموارد.
• ينبغي للسياسة النقدية أن تظل تيسيرية (ما دام التضخم على المسار الصحيح)، مع اعتماد منهج استباقي في معالجة مخاطر الاستقرار المالي باستخدام الأدوات الاحترازية الكلية.
• تغير المناخ قد يعيق النمو الاقتصادي، لذلك يتوجب الاستثمار في البنية التحتية الخضراء التي يمكن ان تعوض الخسائر الاقتصادية من ارتفاع تكاليف الطاقة.