الخبير المصرفي هاني عادل يكتب..انا والدولار وهواك
هارباً من زحام العمل وضغوطه ، قررت أن أغادر مكتبي طلباً لبعض الراحة و البعد عن التفكير والانشغال باللاشيء … تجولت فى شوارع القاهرة بلا هدف ، حتى وصلت تلك المقهى العتيقة بذلك الحي الشعبي ، مقهى مازلت تحتفظ بأصالة مقاهي زمان ، و يبدو على روادها اصالة وطيبة الشعب المصري وعراقته.
طلبت فناجانً من القهوة المحوجة و اغلقت هاتفي المحمول وجلست اتمعن فى ملامح الخلق واستمع حكاويهم و دعاباتهم ، دقائق مرت دون ما يلفت النظر ، رتابة الحياة تسيطر على الكل ، حتى دخل ذلك الحرفي ليجلس على الطاولة المجاورة و ينادى على فتى القهوة طالباً شاي خمسينه و حجر معسل ، متسائلاً "اخبار الأخضر ايه النهارده يا حماده" … هنا انتبهت .. مستشعرات عقلي استقبلت شيء مثير يستوجب المتابعة ، ليأتي من خلفي صوت حمادة صبي القهوجي طالباً اعداد مشروبات الاسطى ابراهيم الميكانيكي و مجاوباً على سؤاله قائلاً " واحد وعشين ونص يا اسطى .. عاوز ؟ "
شبح ابتسامه خفيفة ارتسمت على ملامحي ، وتابعت … أجاب الاسطى ابراهيم " مش الغرض .. انا بس عاوز اعرف وصل لكام عشان معايا قرشين كده بفكر أعينهم دولار لوقت زنقه" ، أتى صوت من تلك الطاولة في آخر المقهى يبدو عليه الحكمة قائلاً " الحق اشتري يا هيمه قبل ما يوصل 25 .. انا لسه شاري 350 من يومين بـ 20 ودلوقتي اهو وصل 21 ونص ، وبيقولوا هيولع قبل اخر الاسبوع" .
التفت الاسطى ابراهيم ليواجه ذلك الحكيم الجالس فى ركن المقهى و العالم بمجريات الأمور ، وبادله التحية معلقاً " والله يا استاذ حسين ما عارف اعمل ايه .. فى ناس بتقولى حطهم فى الشهادة أم 18%" ، جاوبه الاستاذ حسين بعد ان سحب نفساً عميقاً من الارجيلة مطلقاً مع الدخان الكثير من الهراء مجاوباً " يابني اشترى .. انا مدرس عربي و فاهم كويس فى الحاجات دى وبقولك اشتري .. المستقبل للدولار يا هيمه .. والشهادات دي مش مضمونة".
اتسعت ابتسامتي من نصائح معلم الاجيال ، و تسائلت بيني و بين نفسي عن مصير تلك الاجيال التي درست على يد ذلك الاستاذ ، و قطع شرودي تلك الكحه المزعجة القادمة عن يساري لرجل فى الخمسينات من عمره يرتدى الجلباب والعمة ويجلس على مكتب ومعه ريموت التلفاز مما يؤكد أنه صاحب المقهى ، وبعد سعال لدقائق ، بصق كلماته " لامؤخذه يا استاذ حسين ، بس بصراحة انت معاك حق ، بنوكة ايه اللي نشيل فيها الفلوس ، دا الواد حمدى ابن عبده العطار كان سمع ان الواحد محمد علام اللي شغال فى شركة المقاولات اللى على الناصية مرتبة بيجيله على البتاعه اللي اسمها فيسا كارت و بيخصموا نصه كل شهر .. لا يا عم البنوك مش امان" .
هنا تدخل حمادة بعد أن وصى على طلبات الزبائن بثقه ، ليعلن بنفس الثقة عن رأيه قائلاً " الحاج عطيه معاه حق ، دا انا عندى ابن بنت خالتى عايش فى السعوديه و بيبعت لأمه حواله كل شهر و البنك بيحولها بالسعر القليل … قولتله بلاش يابني وخليهم يبيعوا الاخضر عند عم سلامة البقال ، الرجل بيشترى بسعر عالي و مضمون" نظر لي الاسطى ابراهيم متسائلاً " ما تحضرنا يا استاذ … رأيك ايه " ، نظر لي الجميع منتظرا رأي ذلك الغريب المتابع بشغف ، هنا تذكرت كلمات المناضل الثوري الكبير سعد باشا زغلول حينما أكد أنه "مفيش فايدة" .. و لثواني فكرت القيام ثم عدلت عن تلك الفكرة و قررت الحديث ، بدأت حديثي مخاطباً الاسطى ابراهيم قائلاً " قولي يا هيمه .. لو امك تعبانه ودواها شاحح فى السوق ، وانت عرفت تجيبه ، تخزنه ولا تديها الدوا ؟ " فى شك جاوبنى الاسطى ابراهيم " لا مؤاخذة مش فاهم العلاقة .. بس لامؤاخذه اديهولها طبعاً دى امى " نظرت ناحية معلم الاجيال و سألته " ممكن تقولي يا استاذ حسين انت حسابك فى بنك ايه ؟ " ، بتلقائية شديدة أجابني " بنك مصر.. اشمعنى ؟ " ، ضحكت ناظراً للمعلم عطيه معلقاً " ايه ده البنوك طلعت مضمونه اهو " وسط ذهول الجميع ، وقفت ، و اضعا ثمن فنجان القهوة على الطاولة ، لأرحل تاركاً خلفي تساؤلات و جدال لم ارغب فى المشاركة فيه … للأمانه .. أؤكد أن ما سلف ذكره ، ما هو إلا موقف تخيلي ، لكنه يرصد بكل حياديه كيف يتعامل المجتمع مع الازمة ، الكل يفتي ، ولا اقول يجتهد ، ولكن يفتي ، يقتنع بشيء و يحاول ينشر قناعاته بين محيطه ، حتى الفئات التى لم تتعامل يوماً بالدولار اصبحت تبيعه وتشتريه ، سعياً لربح سريع ، حتى ولو كان الثمن هو استقرار الوطن و مصالحه ، التى هى ذاتها مصالح المجتمع.
الكل يسعى ليربح مئات الجنيهات ، ليدفع فى المقابل الثمن بالالاف غلائاً فى الاسعار ، كل من قرأ كلمتين و سمع اشاعة ، يجتهد ليجعل منها حقيقه و واقع ، و بدلاً من تفهم الأزمة .. الكل يبحث عن الاستفادة من الأزمة ، حتى ولو على حساب الوطن.
فى الختام ، اوجه رساله الى من لم يدرك الأمر بعض ، ربحك السريع اليوم يحمل لك خسائر غداً وبعد غد ، فأن رضيت المكسب السريع ، فأقبل الثمن الذي ستدفعه مرغماً.